لحظات ما قبل الرحيل الأخير ..
مهداة اليكم جميعا بهذا المنتدى الرائع
و مهداة على الخصوص الى كل قلب مكلوم ذاق مرارة الحياة
في غابة الصراع الإجتماعي و الإنساني المقيت .
كانت المدينة تصارع بقايا الليل الذي مضى تاركا مكانه لصباح جديد و لقلب غمرته الأحزان حتى النخاع .
وحدها المرأة تتسلل من نافذة الذكريات كما تتسلل الشمس خلسة كل صباح من عيون الكون لتسكن كبد السماء .
عندما رن الهاتف ، ردت خديجة ، فإذا به منير يطلب حضورها عاجلا الى المستشفى المجاور، كان صوته يحمل أشواقه الأزلية و هذيان قلب
لعل الطائر الرمادي حط لتوه على غصن فؤادها المائل و نظر الى ثواني العمر الهارب .
خرجت متجهة نحو الهدف و هي في بداية طريق طويل و شاق تتأبط حلم زيارتها .
بين دفاتر الماضي السحيق كانت تبحث عن لقائهما الأول و تحاول التذكر كيف افترقا تلك الليلة في منتصف الطريق .
المرأة الثلاثينية، مسكوكة الحاجبين ذات الحقيبة الجلدية الزرقاء والنظرات الحزينة ..
كانت تمشي و خيطُ زمنٍ مضى يومض ليذكرها يوم قال لها:هل تعجبك الحلوى ؟ هل يعجبك الورد ؟ هل يعجبك المساء المحمل بالهمسات ؟
و هل تعجبك الشمس بلا غروب ؟ .
كأنها طفلة على كف براءة حين اقتحم ذاك الرجل خلوتها ذاك المساء .
حينها كان الأطفال و الشباب مسمرون قبالة الشاشة ما يلبث أن تهتز جنبات المقهى بصيحاتهم و صرخاتهم ..
و فوق العشب الأخضر أقدام تلامس كرة من جلد مملوءة بالريح .
فتتساءل قائلة: هؤلاء خلف ماذا يركضون ؟ و هؤلاء لماذا يهتزون كأمواج بحر ثائر؟ هل فعلا يركضون خلف الحلم أم هم في واقع الأمر تائهون ؟
و لماذا اقتحم هذا الرجل خلوتي و من أي ثقب في الجدار انسل دون استئذان ؟ .
تتشعب أسئلتها بين خطوة و خطوة و هي تمشي بين دروب الذكريات الموحشة .
ها هي الآن تقترب من المستشفى ، فيما قبل كانت لا تطيق دخول المستشفى و لا تقوى حتى على الإقتراب منه ، لكنها اليوم تأتي اليه طائعة طيعة .
ترى هل سأجده بخير تتساءل ، تود أن تراه بألف ألف خير لتفرش له نبض القلب من جديد ، و ربما لتحتضنه بين ربوع ذراعيها كما تحتضن الشفتين حبة كرز ملوكية .
هنيهة تجد نفسها و هي تلج باب المستشفى ،عند الإستقبالات سألت عن المدعو منير الهيثم ، يخبرها أحدهم بأنه يرقد في الغرفة رقم :7 الطابق الأول .
عند وصولها بدت الغرفة صامتة و حزينة و منير يرقد على سرير ممتد وسطها ، و قد عُلقت بساعده الأيمن زجاجة سيروم بواسطة خيط بلاستيكي
عيناه مغمضتان و غائرتان في محجريهما .ألقت خديجة السلام ، لم يصدر عنه أي رد ، بحلقت جيدا في وجهه ، كأنه جسد بلا روح .
آه كم هو صعب أن تسلم و لا يأتيك غير صمت قاتل .
تأكدت أن الرجل بين الحياة و الموت ، جلست على كرسي بجوار سريره فأطلقت العنان لدموعها ، بكت بحرارة حتى تسللت ملوحة بين شفتيها لتذكرها زمن الوجع .
أحست بأن الحياة تافهة ، خصوصا و أن صاحب هذا الجسد المتهالك كان كله حيوية و نشاطا ، لا يكل و لا يمل من الحركة و الحوار .
كانت و إياه أسعد زوجين بتلك المدينة .
لكن قسوة الأيام و بطالته التي أقعدته بالمنزل و عدم انجابهما جعلت منه انسانا آخر ..
فبدأ يحس تحت تأثير عائلته و انتقادها له حيث ترى أنه مسلوب الرجولة و الإرادة و القرار في بيت ليس له فيه سوى الإذعان لأوامر إمرأة
تكبره سنا و تذر عليه بوظيفتها بعض الدريهمات .
في حين كانت خديجة تجعل منه تاجا على رأسها و تشاركه في كل صغيرة و كبيرة ، لكن الأمور استفحلت و تطورت و غلب فيه تأثير عائلته
بشكل متسارع و بدأ الصراع بينهما و انتهى بهما الأمر أخيرا الى فراق كله وجع .
لكن و هو أمامها الآن جسد يلفظ أنفاسه تمنت لو يعود الزمن الى الوراء لينتصرا على تهورهما و يعيشا بعضا من السعادة التي سادت بداية حياتهما ..
كانت دموعها تنهمر و خفقان قلبها يكبر عندما دخل عليها أحد الممرضين قائلا:
- السلام عليكم
- و عليكم السلام
- من تكونين سيدتي ؟
- انا زوجة منير ،رجاءا طمني سيدي عن حالته الصحية..
- سيدتي هو الآن يمر بوضعية حرجة ، فمنذ أن أدخلته والدته المشفى تلك الليلة و حالته الصحية في تدهور مستمر...
- لكنه سيدي هو من هاتفني قبل قليل و طلب مني الحضور الى هنا ..
- صحيح سيدتي كنت هنا فبمجرد أن أنهى آخر مكالمته دخل في غيبوبة حادة و أثناء فحصه بالأشعة أظهرت الصور أنه أصيب بجلطة دماغية
لكن الأمر بيد لله...
في هذا اللقاء الأخير بقيت خديجة لوقت طويل بجوار منير ،دموع و نحيب و وجع من الأعماق
كانت تقبل يده تارة و أخرى جبينه ، أحست ببروردة غير عادية تغزو جسده، جلست تعد مناقبه ..
و تعترف أن حبها له لم و لن يموت أبدا بل سيبقى خالدا ما تعاقب الليل و النهار...بكت فبكى معها المكان و كل القلوب المجروحة التي تعيش القهر العائلي ..
بكى معها هذا المدى الذي يحمل عذابات أحبة فرقت بينهم نوازل الزمن .
تساءلت مع قرارة نفسها قائلة: هل ستنطفئ آخر شمعة ظلت تحترق لتنير طريقي ؟ و هل سيكون هذا آخر لقاء سنتحدث فيه وجها لوجه ؟
و هل ستكون حقا هذه هي النهاية الغير متوقعة ؟؟؟
بعد أن انتهى زمن الزيارة دخل احد المسؤولين طالبا مغادرة الزوار للمرضى ، خرجت خديجة و كلها ألم على ما أصاب حبيبها ...
دعت له بالشفاء العاجل . وَ دَّعَت المكان حاملة معها أمل الشفاء و زمنا آخر للأحزان ... تقدمت في هدوء نحو المسؤول فقالت له:
- سيدي لو تكرمت هذا رقم هاتفي و اذا ما احتجتم لشيء أو كان هناك جديد اتصل بي ، فأنا رهن اشارتكم .
كانت في طريق عودتها عندما رن الهاتف مجددا:
- آلو ..
- آلو من معي .؟ ردت متوجسة..
- مسؤول بالمستشفى .. سيدتي أَجَرَكِ الله في هذا المصاب الجلل .. مات منير .../.. ( انتهت )
منقول